الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ونسب أبو حيان هذا القول إلى أبي صالح وشهر بن حوشب، وأيد بقراءة عيسى وابن أبي عبلة {والعمل الصالح} بالنصب على الاشتغال، وفيه بحث لعدم تعين ضمير {الكلم} للفاعلية عليها، ومعنى رفع الكلم الطيب العمل الصالح قيل أن يزيده بهجة وحسنًا.ومن فسر الكلم الطيب بالتوحيد قال: معنى ذلك جعله مقبولًا فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد، وقيل: الفاعل ضميره تعالى وضمير النصب يعود على العمل، وأخرج ذلك ابن المبارك عن قتادة أي والعمل الصالح يرفعه الله تعالى ويقبله.قال ابن عطية: هذا أرجح الأقوال عندي، وقيل: ضمير الفاعل يعود على العمل وكذا الضمير المنصوب والكلام على حذف مضاف أي والعمل الصالح يرفع عامله ويشرفه، ونسب ذلك أبو حيان إلى ابن عباس ثم قال: ويجوز عندي أن يكون {العمل} معطوفًا على {يَصْعَدُ الكلم} و{يَرْفَعُهُ} استئناف أخبار أي يرفعهما الله تعالى، ووحد الضمير لاشتراكهما في الصعود والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة فيكون لفظه مفردًا والمراد به التثنية فكأنه قيل: ليس صعودهما من ذاتهما بل ذلك برفع الله تعالى إياهما. اهـ.وهو خلاف الظاهر جدًّا، ومثله ما نسبه إلى ابن عباس وأنا لا أظن صحة نسبته إليه، وعلى التسليم يحتمل أنه رضي الله تعالى عنه أراد بقوله العمل الصالح يرفع عامله ويشرفه بيان ما تشير إليه الآية في الجملة.والذي يتبادر إلى ذهني من الآية ما روي عن قتادة واختاره ابن عطية، وتخصيص العمل الصالح برفع الله تعالى إياه على ذلك قيل لما فيه من الكلفة والمشقة إذ هو الجهاد الأكبر، وظاهر هذا أن العمل أشرف من الكلام ولا كلام في ذلك إذا أريد بالعمل الصالح ما يشمل العمل القلبي كالتصديق، ولعل الكلام عليه نظير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا} [الأعراف: 143] وقوله سبحانه: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وكلام الإمام صريح في أن الكلم الطيب المفسر بالذكر أشرف من العمل حيث جعل صعود الكلم بنفسه دليل ترجيحه على العمل الذي يرفعه غيره، وقال في وجه ذلك: الكلام شريف فإن امتياز الإنسان عن كل حيوان بالنطق والعمل حركة وسكون يشترك فيه الإنسان وغيره والشريف إذا وصل إلى باب الملك لا يمنع ومن دونه لا يجد الطريق إلا عند الطلب، ويدل على هذا أن الكافر إذا تكلم بكلمة الشهادة أمن من عذاب الدارين إن كان ذلك عن صدق وأمن في نفسه ودمه وحرمه في الدنيا إن كان ظاهرًا ولا كذلك العمل بالجوارح، وأيضًا أن القلب هو الأصل وما فيه لا يظهر إلا باللسان وما في اللسان لا يبين صدقه إلا بالفعل فالقول أقرب إلى القلب من الفعل فيكون أشرف منه، اه وفي القلب منه شيء فتدبر.{والذين يَمْكُرُونَ السيئات} أي المكرات السيئات أو أصناف المكرات السيئات على أن {السيئات} صفة لمحذوف وليس مفعولًا به ليمكرون لأن مكر لازم، وجوز أن يكون مفعولًا على تضمين يقصدون أو يكسبون وعلى الأول فيه مبالغة للوعيد الشديد على قصد المكر أو هو إشارة إلى عدم تأثير مكرهم، والموصول مبتدأ وجملة قوله تعالى: {والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} خبره أي لهم بسبب مكرهم عذاب شديد لا يقادر قدره ولا يعبأ بالنسبة إليه بما يمكرون.والآية على ما روي عن أبي العالية في الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة كما قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 0 3] والمضارع لحكاية الحال الماضية، ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم في قوله سبحانه: {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ} للإيذان بكمال تميزهم بما هم عليه من الشر والفساد عن سائر المفسدين واشتهارهم بذلك، وما فيه من معنى البعد للتنبيه على ترامي أمرهم في الطغيان وبعد منزلتهم في العدوان أي ومكر أولئك المفسدين المشهورين {هُوَ يَبُورُ} أي يفسد، وأصل البوار فرط الكساد أو الهلاك فاستعير هنا للفساد عدم التأثير لأن فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد أو لأن الكاسد يكسد في الغالب لفساده ولأن الهالك فاسد لا أثر له، و{مَكَرَ} مبتدأ خبره جملة {هُوَ يَبُورُ} وتقديم الضمير للتقوى أو الاختصاص أي مكرهم هو يفسد خاصة لا مكرنا بهم، وأجاز الحوفي وأبو البقاء كون الخبر جملة {يَبُورُ} و{هُوَ} ضمير فصل.وتعقبه في البحر بأن ضمير الفصل لا يكون ما بعده فعلًا ولم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمنا إلا عبد القاهر الجرجاني في شرح الإيضاح له فإنه أجاز في كان زيد هو يقوم أن يكون هو فصلًا. ورد ذلك عليه.وجوز أبو البقاء أيضًا كون {هُوَ} تأكيدًا للمبتدأ، والظاهر ما قدمناه، وقد أبار الله تعالى أولئك الماكرين بعد إبارة مكرهم حيث أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر فجمع عليهم مكراتهم الثلاث التي اكتفوا في حقه عليه الصلاة والسلام بواحدة منهن وحقق عز وجل فيهم قوله سبحانه: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54] وقوله تعالى: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 3 4] ووجه ارتباط الآية بما قبلها على ما ذكره شيخ الإسلام أنها بيان لحال الكلم الخبيث والعمل السيء وأهلهما بعد بيان حال الكلم الطيب والعمل الصالح.وقال في الكشف: كأنه لما حصر سبحانه العزة وخصها به تعالى يعطيها من يشاء وأرشد إلى نيل ما به ينال ذلك المطلوب ذكر على سبيل الاستطراد حال من أراد العزة من عند غيره عز وجل وأخذ في إهانة من أعزه الله تعالى فوق السماكين قدرًا وما رجع إليهم من وبال ذلك كالاستشهاد لتلك الدعوى وهو خلاصة ما ذكره الطيبي في وجه الانتظام.وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب أن الآية في أصحاب الرياء وهي متصلة بما عندها على ما روي عن شهر حيث قال: {والذين يَمْكُرُونَ} أي يراؤن {شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} هم أصحاب الرياء عملهم لا يصعد، وقال الطيبي: إن الجملة على هذه الرواية عطف على جملة الشرط والجزاء أعني قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ العزة} الخ فيجب حينئذٍ مراعاة التطابق بين القرينتين والتقابل بين الفقرتين بحسب الإمكان بأن يقدر في كل منهما ما يحصل به التقابل بدلالة المذكور في الأولى على المتروك في الأخرى وبالعكس اه ولا يخفى بعده، وأيًا ما كان فالمضارع للاستمرار التجددي.{والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} دليل آخر على صحة البعث والنشور أي خلقكم ابتداءً منه في ضمن خلق آدم عليه السلام خلقًا إجماليًا {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} أي ثم خلقكم منها خلقًا تفصيليًا {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا} أي أصنافًا ذكرانًا وإناثًا كما قال سبحانه: {أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَانًا وإناثا} [الشورى: 0 5] وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي، وأخرج هو وغيره عن قتادة أنه قال قدر بينكم الزوجية وزوج بعضكم بعضًا {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} حال من الفاعل ومن زائدة أي إلا ملتبسة بعلمه تعالى ومعلومية الفاعل راجعة إلى معلومية أحواله مفصلة ومنها حال ما حملته الأنثى ووضعته فجعله من ذلك أبلغ معنى وأحسن لفظًا من جعله من المفعول أعني المحمول والموضوع لأن المفعول محذوف متروك كما صرح به الزمخشري في حم السجدة، وجعله حالًا من الحمل والوضع أنفسهما خلاف الظاهر {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} أي من أحد أي وما يمد في عمر أحد وسمي معمرًا باعتبار الأول نحو {إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] ومن قتل قتيلًا على ما ذكر غير واحد وهذا لئلا يلزم تحصيل الحاصل، وجوز أن يقال لأن {يُعَمَّرُ} مضارع فيقتضي أن لا يكون معمرًا بعد ولا ضرورة للحمل على الماضي {وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} الضمير عائد على معمر آخر نظير ما قال ابن مالك في عندي درهم ونصفه أي نصف درهم آخر، ولا يضر في ذلك احتمال أن يكون المراد مثل نصفه لأنه مثال وهو استخدام أو شبيه به وإلى ذلك ذهب الفراء وبعض النحويين ولعله الأظهر، وفسروا المعمر بالمزاد عمره بدليل ما يقابله من قوله تعالى: {وَلاَ يُنقَصُ} الخ وهو الذي دعاهم إلى إرجاع الضمير إلى نظير المذكور دون عينه ضرورة أنه لا يكون المزيد في عمره منقوصًا من عمره، وقيل: عليه هب أن مرجع الضمير معمر آخر أليس قد نسب النقص في العمر إلى معمر وقد قلتم إنه المزاد عمره.أجيب بأن الأصل وما يعمر من أحد فسمي معمرًا باعتبار ما يئول إليه وعاد الضمير باعتبار الأصل المحول عنه فمآل ذلك ولا ينقص من عمر أحد أي ولا يجعل من ابتداء الأمر ناقصًا فهو نظير قولهم ضيق فم الركية، وقال آخرون: الضمير عائد على المعمر الأول بعينه والمعمر هو الذي جعل الله تعالى له عمرًا طال أو قصر؛ ولا مانع أن يكون المعمر ومن ينقص من عمره شخصًا واحدًا والمراد بنقص عمره ما يمر منه وينقضي مثلًا يكتب عمره مائة سنة ثم يكتب تحته مضى يوم مضى يومان وهكذا حتى يأتي الخ وروي هذا عن ابن عباس. وابن جبير. وأبي مالك وحسان بن عطية. والسدي، وقيل بمعناه:
وقيل الزيادة والنقص في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبتت في اللوح كما ورد في الخبر الصدقة تزيد في العمر فيجوز أن يكون أحد معمرًا أي مزادًا في عمره إذا عمل عملًا وينقص من عمره إذا لم يعمله، وهذا لا يلزم منه تغيير التقدير لأنه في تقديره تعالى معلق أيضًا وإن كان ما في علمه تعالى الأزلي وقضائه المبرم لا يعتريه محو على ما عرف عن السلف ولذا جاز الدعاء بطول العمر.وقال كعب: لو أن عمر رضي الله تعالى عنه دعا الله تعالى أخر أجله، ويعلم من هذا أن قول ابن عطية هذا قول ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين كما ذهبت إليه المعتزلة ليس بشيء، ومن العجيب قول ابن كمال: النظر الدقيق يحكم بصحة أن المعمر أي الذي قدر له عمر طويل يجوز أن يبلغ ذلك العمر وأن لا يبلغ فيزيد عمره على الأول وينقص على الثاني ومع ذلك لا يلزم التغيير في التقدير لأن المقدر في كل شخص هو الأنفاس المعدودة لا الأيام المحدودة والأعوام الممدودة ثم قال: فافهم هذا السر العجيب وكتب في الهامش حتى ينكشف لك سر اختيار حبس النفس ويتضح وجه صحة قوله عليه الصلاة والسلام: «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار». اهـ.وتعقبه الشهاب الخفاجي بأنه مما لا يعول عليه عاقل ولم يقل به أحد غير بعض جهلة الهنود مع أنه مخالف لما ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم والنسائي وابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن عبد الله بن مسعود من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة وقد قالت: اللهم امتعني بزوجي النبي صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية، سألت الله تعالى لآجال مضروبة وأيام معدودة الحديث وأطال الجلبي في رده وهو غني عنه. اهـ.وقال بعضهم: يجوز أن لا يبلغ من قدر له عمر طويل ما قدر له بأن يغير ما قدر أولًا بتقدير آخر ولا حجر على الله تعالى، ويشير إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث التراويح «خشيت أن تفرض عليكم» وقوله صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت «وقنى شر ما قضيت» وخوفه عليه من الله تعالى آلاف آلاف صلاة وسلام من قيام الساعة إذا اشتدت الريح مع إخباره بأن بين يديها خروج المهدي والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك مما لم يحدث بعد، وغاية ما يلزم من ذلك تغير المعلوم ولا يلزم منه تغير العلم على ما بين في موضعه وعلى هذا لا إشكال في خبر: «الصدقة تزيد في العمر» ويتضح أمر فائدة الدعاء، وما يحكي عن بعضهم من نفي القضاء المبرم يرجع إليه، وقد رأيت كراسة لبعض الأفاضل أطال الكلام فيها لتشييد هذا القول وتثبيت أركانه، والحق عندي أن ما في العلم الأزلي المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر لا يتغير ويجب أن يقع كما علم وإلا يلزم الانقلاب، وما يتبادر منه خلاف ذلك إذا صح مؤول، وخبر «الصدقة تزيد في العمر» قيل إنه خبر آحاد فلا يعارض القطعيات، وقيل المراد أن الصدقة وكذا غيرها من الطاعات تزيد فيما هو المقصود الأهم من العمر وهو اكتساب الخير والكمال والبركة التي بها بها تستكمل النفوس الإنسانية فتفوز بالسعادة الأبدية، والدعاء حكمه حكم سائر الأسباب من الأكل والشرب والتحفظ من شدة الحر والبرد مثلًا ففائدته كفائدتها، وقيل هو لمجرد إظهار الاحتياج والعبودية فليتدبر.وقيل الضمير للمعمر والنقص لغيره أي ولا ينقص من عمر المعمر لغيره بأن يعطى له عمر ناقص من عمره، وقيل الضمير للمنقوص من عمره وهو وإن لم يصرح به في حكم المذكور كما قيل: فيكون عائدًا على ما علم من السياق أي ولا ينقص من عمر المنقوص من عمره بجعله ناقصًا.وقرأ الحسن. وابن سيرين. وعيسى {وَلاَ يُنقَصُ} بالبناء للفاعل وفاعله ضمير المعمر أو {عُمُرِهِ} و{مِنْ} زائدة في الفاعل وإن كان متعديًا جاز كونه ضمير الله تعالى.وقرأ الأعرج {مِنْ عُمُرِهِ} بسكون الميم {إِلاَّ في كتاب} عن ابن عباس هو اللوح المحفوظ، وجوز أن يراد به صحيفة الإنسان فقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أم سعيد أذكر أم أنثى فيقول الله تعالى ويكتب ثم يكتب عمله ورزقه وأجله وأثره ومصيبته ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص منها» وجوز أيضًا أن يراد به علم الله عز وجل، وذكر في ربط الآيات إن قوله تعالى: {والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} الخ مساق للدلالة على القدرة الكاملة وقوله سبحانه: {مَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى} الخ للعلم الشامل وقوله عز وجل: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} الخ لإثبات القضاء والقدر، والمعنى وما يعمر منكم خطابًا لأفراد النوع الإنساني وأيد بذلك الوجه الأول من أوجه {وَمَا يُعَمَّرُ} الخ {إِنَّ ذلك} أي ما ذكر من الخلق وما بعده مع كونه محارًا للعقول والأفهام {عَلَى الله يَسِيرٌ} لاستغنائه تعالى عن الأسباب فكذلك البعث والنشور. اهـ. .قال عبد الكريم الخطيب: قال تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ}.مناسبة هذه الآية لما قبلها هي أن اللّه سبحانه وتعالى، يبعث رسله بالرحمة إلى عباده، فيقبلها قوم، وبأباها آخرون. فهى أشبه بالغيث، ينزل من السماء، فتحيا بها أماكن منها، وتخرج الحبّ والثمر، على حين يتحول به بعضها إلى أحراش، تئوي الهوام والحشرات.وقال تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا} هو معطوف على الجملة الابتدائية في قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} وذلك مثل قال تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}.والتقدير: إن اللّه يضل من يشاء ويهدى من يشاء، وهو سبحانه {الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا} واختلاف النظم في {يَهْدِي} بالفعل المتجدد {وأَرْسَلَ} بالفعل الماضي.. إشارة إلى أن الإرسال يسبق الآثار المترتبة عليه، وهى الإهداء، أو الإضلال، والإحياء أو الإماتة.. فالإرسال سابق، ولهذا عبّر عنه بالفعل الماضي.. والآثار المترتبة عليه، مستمرة، لا تنقطع، ولهذا عبر عنه بفعل المستقبل {يهدى}.وفي قوله تعالى: {كَذلِكَ النُّشُورُ}. إشارة إلى قضية البعث، التي هي مبعث ارتياب المشركين، وتكذيبهم للرسول في كل ما يدعوهم إليه.وفى هذه الإشارة دليل مادىّ محسوس يشهد لإمكانية البعث، وأنه إذا كانت الأرض الميتة المجدبة، ينزل عليها الماء، فتلد هذه المواليد العجيبة، من النبات، والزهر، والثمر، فإن هذه الأرض التي أودع في ترابها الناس، ليس ببعيد أن ينفخ اللّه فيها نفخة الحياة، فتخرج ما في بطنها من آدميين!.
|